فصل: قال ابن عاشور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



{لاَ يَسْتَوِى أصحاب النار} الذين نسوا الله تعالى فاستحقوا الخلود في النار {وأصحاب الجنة} الذين اتقوا الله فاستحقوا الخلود في الجنة، ولعل تقديم أصحاب النار في الذكر للإيذان من أول الأمر بأن القصور الذي ينبئ عنه عدم الاستواء من جهتهم لا من جهة مقابليهم فإن مفهوم عدم الاستواء بين الشيئين المتفاوتين زيادة ونقصانًا وإن جاز اعتباره بحسب زيادة الزائد لكن المتبادر اعتباره بحسب نقصان الناقص؛ وعليه قوله تعالى: {هَلْ يَسْتَوِى الاعمى والبصير أَمْ هَلْ تَسْتَوِى الظلمات والنور} [الرعد: 16] إلى غير ذلك.
ولعل تقديم الفاضل في قوله تعالى: {هَلْ يَسْتَوِى الذين يَعْلَمُونَ والذين لاَ يَعْلَمُونَ} [الزمر: 9] لأن صفته ملكة لصفة المفضول والإعدام مسبوقة بملكاتها، والمراد بعدم الاستواء عدم الاستواء في الأحوال الأخروية كما ينبئ عنه التعبير عن الفريقين بصاحبية النار وصاحبية الجنة، وكذا قوله تعالى: {أصحاب الجنة هُمُ الفائزون} فإنه استئناف مبين لكيفية عدم الاستواء بينهما أي هم الفائزون في الآخرة بكل مطلوب الناجون عن كل مكروه، والآية تنبيه للناس وإيذان بأنهم لفرط غفلتهم وقلة فكرهم في العاقبة وتهالكهم على إيثار العاجلة واتباع الشهوات الزائلة كأنهم لا يعرفون الفرق بين الجنة والنار والبون العظيم بين أصحابهما وأن الفوز مع أصحاب الجنة فمن حقهم أن يعلموا ذلك وينبهوا عليه، وهذا كما تقول لمن عق أباه: هو أبوك تجعله بمنزلة من لا يعرفه فتنبهه على حق الأبوة الذي يقتضي البر والتعطف، ومما ذكر يعلم ضعف استدلال أصحاب الشافعي رضي الله تعالى عنه بالآية على أن المسلم لا يقتل بالكافر، وأن الكفار لا يملكون أموال المسلمين بالقهر، وانتصر لهم بأن لهم أن يقولوا: لما حث سبحانه على التقوى فعلًا وتركًا وزجر عز وجل عن الغفلة التي تضادها غاية المضادة بذكر غايتها أعني نسيان الله تعالى ترشيحًا للتقريع أردفه سبحانه بأن أصحاب التقوى وأصحاب هذه الغفلة لا يستوون في شيء مّا، وعبر عنهم بأصحاب الجنة وأصحاب النار زيادة تصوير وتبيين، فالمقام يقتضي التباين في حكمي الدارين وإن كان المقصود بالقصد الأول تباينهم في الدار التي هي المدار، وأنت تعلم أن بيان اقتضاء المقام ذلك في مقابلة قول أصحاب أبي حنيفة.
إن المقام يقتضي التخصيص وإلا فالشافعية يقولون: إن العموم مدلول نفي المساوات لغة لأن النفي داخل على مسمى المساواة فلابد من انتفائها من جميع الوجوه إذ لو وجدت من وجه لما كان مسماها منتفيًا هو خلاف مقتضى اللفظ، وقول الحنفية: إن الاستواء مطلقًا أعم من الاستواء من كل وجه ومن وجه دون وجه، والنفي إنما دخل على الاستواء الأعم فلا يكون مشعرًا بأحد القسمين الخاصين.
وحاصله أن الأعم لا يشعر بالأخص فيه إن ذلك في الإثبات مسلم وفي النفي ممنوع، ألا ترى أن من قال: ما رأيت حيوانًا وكان قد رأى إنسانًا مثلًا عد كاذبًا؟ وتمام ذلك في كتب الأصول، والإنصاف أن كون المراد هنا نفي الاستواء في الأمور الأخروية ظاهر جدًا فلا ينبغي الاستدلال بها على ما ذكر.
{لَوْ أَنزَلْنَا هذا القرءان} العظيم الشأن المنطوي على فنون القوارع {على جَبَلٍ} من الجبال أو جبل عظيم {لَّرَأَيْتَهُ} مع كونه علمًا في القسوة وعدم التأثر مما يصادمه {خاشعا مُّتَصَدّعًا مّنْ خَشْيَةِ الله} أي متشققًا منها.
وقرأ أبو طلحة {مصدعًا} بإدغام التاء في الصاد، وهذا تمثيل وتخييل لعلو شأن القرآن وقوة تأثير ما فيه من المواعظ والزواجر، والغرض توبيخ الإنسان على قسوة قلبه وقلة تخشعه عند تلاوة القرآن وتدبر ما فيه من القوارع وهو الذي لو أنزل على جبل وقد ركب فيه العقل لخشع وتصدع، ويشير إلى كونه تمثيلًا قوله تعالى: {وَتِلْكَ الامثال نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} فإن الإشارة فيه إلى قوله تعالى: {لَوْ أَنزَلْنَا} إلخ وإلى أمثاله، فالكلام بتقدير وقوع تلك، أو المراد تلك وأشباهها والأمثال في الأغلب تمثيلات متخيلة. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ}
انتقال من الامتنان على المسلمين بما يسرّ الله من فتح قرية بني النضير بدون قتال، وما أفاء الله على رسوله صلى الله عليه وسلم منهم، ووصف ما جرى من خيبتهم وخيبة أملهم في نصرة المنافقين، ومن الإِيذان بأن عاقبة أهل القرى الباقية كعاقبة أسلافهم.
وكذلك موقف أنصارهم معهم، إلى الأمر بتقوى الله شكرًا له على ما منح وما وعد من صادق الوعد فإن الشكر جزاء العبد عن نعمة ربه إذ لا يستطيع جزاء غير ذلك فأقبل على خطاب الذين آمنوا بالأمر بتقوى الله.
ولما كان ما تضمنته السورة من تأييد الله إياهم وفَيض نعمه عليهم كان من منافع الدنيا، أعقبه بتذكيرهم بالإِعداد للآخرة بقوله: {ولتنظر نفس ما قدمت لغدٍ} أي لتتأمل كل نفس فيما قدمته للآخرة.
وجملة {ولتنظر نفس ما قدمت لغدٍ}، عطف أمر على أمر آخر.
وهي معترضة بين جملة {اتقوا الله} وجملة {إن الله خبير بما تعملون}.
وذِكر {نفس} إظهار في مقام الإِضمار لأن مقتضى الظاهر: وانظروا ما قدمتم، فعُدل عن الإِظهار لقصد العموم أي لتنظروا وتنظر كل نفس.
وتنكير {نفس} يفيد العموم في سياق الأمر، أي لتنظر كل نفس، فإن الأمر والدعاء ونحوهما كالشرط تكون النكرة في سياقها مثل ما هي في سياق النفي كقوله تعالى: {وإن أحد من المشركين استجارك فأجره} [التوبة: 6] وكقول الحريري:
يا أهلَ ذا المَغْنَى وُقيتم ضُرّا

(أي كل ضر).
وإنما لم يعرَّف بلام التعريف تنصيصًا على العموم لئلا يتوهم نفسٌ معهودة.
وأطلق (غد) على الزمن المستقبل مجازًا لتقريب الزمن المستقبل من البعيد لملازمة اقتراب الزمن لمفهوم الغَد، لأن الغد هو اليوم الموالي لليوم الذي فيه المتكلم فهو أقرب أزمنة المستقبل كما قال قراد بن أجدع:
فإن يَكُ صدْرُ هذا اليوم ولّى ** فإن غدًا لناظره قريب

وهذا المجاز شائع في كلام العرب في لفظ (غد) وأخواته قال زهير:
وأعْلَمُ عِلْم اليوممِ والأمسسِ قبلَه ** ولكنني عن علم ما في غدٍ عَمِ

يريد باليوم الزمن الحاضر، وبالأمس الزمن الماضي، وبالغد الزمن المستقبل.
وتنكير (غد) للتعظيم والتهويل، أي لغدٍ لا يعرف كنهه.
واللام في قوله: {لغدٍ} لام العلة، أي ما قدمتْه لأجل يوم القيامة، أي لأجل الانتفاع به.
والتقديم: مستعار للعمل الذي يُعمل لتحصيل فائدته في زمن آت شبه قصد الانتفاع به في المستقبل بتقديم من يَحلّ في المنزل قبل ورود السائرين إليه من جيش أو سَفر ليهيّء لهم ما يصلح أمرهم، ومنه مقدمة الجيش وتقديم الرائد قبل القافلة.
قال تعالى: {وما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله} [البقرة: 110] ويقال في ضده: أَخَّر، إذا ترك عمل شيء قال تعالى: {علمت نفس ما قدمت وأخرت}
[الأنفطار: 5].
وإعادة {واتقوا الله} ليبنَى عليه {إن الله خبير بما تعملون} فيحصل الربط بين التعليل والمعلل إذ وقع بينهما فصل {ولتنظر نفس ما قدمت لغدٍ}.
وإنما أعيد بطريق العطف لزيادة التأكيد فإن التوكيد اللفظي يؤتى به تارة معطوفًا كقوله تعالى: {أولى لك فأولى ثم أولى لك فأولى} [القيامة: 34، 35] وقوله: {كلا سوف تعلمون ثم كلا سوف تعلمون} [التكاثر: 3 4].
وقول عدي بن زيد: (وأل في قولها كذبًا ومَينًا).
وذلك أن في العطف إيهام أن يكون التوكيد يجعل كالتأسيس لزيادة الاهتمام بالمؤكد.
فجملة {إن الله خبير بما تعملون} تعليل للحث على تقوى الله وموقع {إنَّ} فيها موقع التعليل.
ويجوز أن يكون {اتقوا الله} المذكور أولًا مرادًا به التقوى بمعنى الخوف من الله وهي الباعثة على العمل ولذلك أردف بقوله: {ولتنظر نفس ما قدمت لغدٍ} ويكون {اتقوا الله} المذكور ثانيًا مرادًا به الدوام على التقوى الأولى، أي ودوموا على التقوى على حد قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا آمنوا بالله ورسوله} [النساء: 136] ولذلك أردف بقوله: {إن الله خبير بما تعملون} أي بمقدار اجتهادكم في التقوى، وأردف بقوله: {ولا تكونوا كالذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم} [الحشر: 19] أي أهملوا التقوى بعد أن تقلّدوها كما سيأتي أنهم المنافقون فإنهم تقلّدوا الإِسلام وأضاعوه قال تعالى: {نسوا الله فنسيهم إن المنافقين هم الفاسقون} [التوبة: 67].
وفي قوله: {إن الله خبير بما تعملون} إظهار اسم الجلالة في مقام الإِضمار، فتكون الجملة مستقلة بدلالتها أتمّ استقلال فتجري مجرى الأمثال ولتربية المهابة في نفس المخاطبين.
{وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (19)}
بعد أن أمر المؤمنين بتقوى الله وإعداد العُدة للآخرة أعقبه بهذا النهي تحذيرًا عن الإِعراض عن الدين والتغافل عن التقوى، وذلك يفضي إلى الفسوق.
وجيء في النهي بنهيهم عن حالة قوم تحققت فيهم هذه الصلة ليكون النهي عن إضاعة التقوى مصورًا في صورة محسوسة هي صورة قوم تحققت فيهم تلك الصلة وهم الذين أعرضوا عن التقوى.
وهذا الإِعراض مراتب قد تنتهي إلى الكفر الذي تلبس به اليهود وإلى النفاق الذي تلبس به فريق ممن أظهروا الإِسلام في أول سنيّ الهجرة، وظاهر الموصول أنه لطائفة معهودة فيحتمل أن يُراد ب(الذين نسوا الله) المنافقين لأنهم كانوا مشركين ولم يهتدوا للتوحيد بهدي الإِسلام فعبر عن النفاق بنسيان الله لأنه جهل بصفات الله من التوحيد والكمال.
وعبّر عنهم بالفاسقين قوله تعالى: {نسوا الله فنسيهم إن المنافقين هم الفاسقون} في سورة [براءة: 67]، فتكون هذه الآية ناظرة إلى تلك.
ويحتمل أن يكون المراد بهم اليهود لأنهم أضاعوا دينهم ولم يقبلوا رسالة عيسى عليه السلام وكفروا بحمد.
فالمعنى: نسوا دين الله وميثاقه الذي واثقهم به، قال تعالى: {وأوفوا بعهدي أوف بعهدكم وإياي فارهبون وآمنوا بما أنزلت مصدقًا لما معكم} [البقرة: 40- 41].
وقد أطلق نسيانهم على الترك والإِعراض عن عمد أي فنسوا دلائل توحيد الله ودلائلَ صفاته ودلائلَ صدق رسوله صلى الله عليه وسلم وفهم كتابه فالكلام بتقدير حذف مضاف أو مضافين.
ومعنى (أنساهم أنفسهم) أن الله لم يخلق في مداركهم التفطن لفهم الهدي الإِسلامي فيعملوا بما ينجيهم من عذاب الآخرة ولما فيه صَلاحهم في الدنيا، إذ خذلهم بذبذبة آرائهم فأصبح اليهود في قبضة المسلمين يخرجونهم من ديارهم، وأصبح المنافقون ملموزين بين اليهود بالغدر ونقض العهد وبين المسلمين بالاحتقار واللعن.
وأشعر فاء التسبب بأن إِنسَاء الله إياهم أنفسهم مسبب على نسيانهم دين الله، أي لمَّا أعرضوا عن الهدى بكسبهم وإرادتهم عاقبهم الله بأن خلق فيهم نسيان أنفسهم.
وإظهار اسم الجلالة في قوله تعالى: {كالذين نسوا الله} دون أن يقال: نسُوهُ لاستفظاع هذا النسيان فعلق باسم الله الذي خلقهم وأرشدهم.
والقصر المستفاد من ضمير الفصل في قوله: {أولئك هم الفاسقون} قصر ادعائي للمبالغة في وصفهم بشدة الفسق حتى كأنّ فسق غيرهم ليس بفسق في جانب فسقهم.
واسم الإِشارة للتشهير بهم بهذا الوصف.
والفسق: الخروج من المكان الموضوع للشيء فهو صفة ذم غالبًا لأنه مفارقة للمكان اللائق بالشيء، ومنه قيل: فسقت الرطبة إذا خرجت من قشرها، فالفاسقون هم الآتون بفواحش السيئات ومساوي الأعمال وأعظمها الإِشراك.
وجملة {أولئك هم الفاسقون} مستأنفة استئنافًا بيانيًّا لبيان الإِبهام الذي أفاده قوله: {فأنساهم أنفسهم} كأن السامع سأل: ماذا كان أثر إنساء الله إياهم أنفسهم؟ فأجيب بأنهم بلغوا بسبب ذلك منتهى الفسق في الأعمال السيئة حتى حقّ عليهم أن يقال: إنه لا فسق بعد فسقهم.